معنى قول المصنف: والتفاضل بينهم بالحقيقة
ثم يقول المصنف: (والتفاضل بينهم بالحقيقة)، وفي بعض النسخ: (بالخشية والتقى) بدل قوله: بالحقيقة، ففي العبارة الأولى: (والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى) يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق في حقيقته بعضه أقوى من بعض كما تقدم تنظيره بقوة النظر وضعفه، وكأن العبارة: والتفاضل بينهم بالحقيقة.إذاً يقول: التفاضل بينهم وإن كانوا مشتركين في أصل التصديق؛ فإنهم في حقيقة التصديق متفاضلون، وما دام الكلام خطأ فالعبارة كلها خاطئة، ولكن نوضحها فقط، وفي العبارة الأخرى: (بالخشية والتقوى) وهي عندي أخف وأوجه، أي: أن يكون التفاضل بالخشية، فإذا قال: بالحقيقة فكيف يكون الإيمان واحداً؟ إن معناه أن حقيقته واحدة، لكن يمكن أن يكون أولى أو أقرب وأخف خطأً أن يقول: والتفاضل بينهم بالخشية، يقول الشيخ: وفي العبارة الأخرى، أي: التفاضل بينهم بالخشية والتقى، يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، فنضيف كلمة: (الأخرى)، فنقول: بأعمال القلوب الأخرى؛ لأننا متفقين على أن التصديق عمل من أعمال القلوب، فالقضية عندنا ليست أن التصديق أصل، ثم يبني عليه أعمال القلوب، ثم يبني عليه أعمال الجوارح، وإنما القضية عندنا أن أعمال القلوب كلها شيء واحد، فمنها التصديق، ثم أعمال الجوارح فوقها ولازمة لها وجزء مكمل لها، فإذاً كيف يكون التصديق عملاً من أعمال القلب يتفق فيه جميع أهل الإيمان، وأعمال أخرى من أعمال القلب يتفاوتون فيها؟ هذا شيء صعب تصوره، أو أن يكون في الواقع؛ لأن المشاهد أن أعمال الجوارح يمكن أن تنفصل، فيمكن أن يكون هذا يصلي وذاك يجاهد وذاك يحج، والانفصال بين أعمال الجوارح واضح؛ لأنها ظاهرة، أما أعمال القلب فأصعب ما يكون أن تنفصل، بحيث يكون عنده صدق كامل، والخشية تكون أقل، فالصدق والخشية واليقين كلها جملة من أعمال الباطن المخفي الغيبي، فيصعب في الحقيقة الفصل بينها، كما أنه غير ممكن أن نجعل بعضها أصلاً وبعضها فرعاً، ونجعل بعضا لا تفاوت فيه وبعضها فيه تفاوت، إذ إن كلها عمل باطن، وكلها غير قابلة للتجزئة، بل هي متداخلة، فلو أنك وصفت إنساناً بأنه صادق في إيمانه، فإن معنى ذلك أنه متوكل على الله، وأنه يخشى الله، وأنه موقن بالله، ويخاف الله ويرجو ما عنده ولو قلت: هذا إنسان موقن، أو أن الله وصفه بأنه من الموقنين، فإن معنى ذلك أيضاً: أنه يكون خائفاً وراجياً وصابراً ومتوكلاً إلى آخره، إذاً فالتلازم بين أعمال القلوب أقوى بكثير من أعمال الجوارح التي يمكن أن تنفصل، أما أعمال القلب فلا بد من التلازم فيها بينها.وهذا هو السبب الذي جعل الشيخ يقول: (والمعنى الأول أظهر قوة)، أي: بالنسبة للعبارتين، ولأن الشيخ نفسه مضطرب متردد، وإن كان أقل اضطراباً من شيخه الماتن وأوضح في الاتجاه إلى ما أجمع عليه السلف، ولكنه لم يتخل كلية عن مذهب المرجئة الحنفية ، فيميل إليه أحياناً ويخلط شيئاً بها، فأظهر قوة فقط من الأولى، ولكن ليس معنى هذا أنه لا خطأ فيها، وقد يقول قائل: قد يكون قصد بالتصديق: قول القلب، فيكون عندنا أعمال القلب شيء، وقول القلب شيء وهو التصديق، وبالتالي يكون قوله: التفاوت بين المؤمنين إنما هو في الأعمال التي هي أعمال القلب وأعمال الجوارح، وأما التصديق الذي هو أصل الدين فلا تفاوت فيه، فهم في الحقيقة يقولون هذا، لكن قلنا: كيف يفرق بين أعمال القلوب فيجعل واحداً منها وحده هو الأصل، ويجعل الباقية هي الفروع؟ أو لماذا نجعل التصديق: قول القلب، ونخرج عمل القلب؟ لما قلنا: يقول المرجئة : الأعمال غير داخلة في الإيمان ألا نقول: إن أول ما نلزمهم به: ماذا تقصدون بالأعمال؟ فإذا قالوا: الأعمال غير داخلة في الإيمان، فنقول: ماذا تعنون بالأعمال؟ الغالب أو ما ينصرف إليه الذهن في أول الأمر أنهم يعنون: أعمال الجوارح، لكن في الحقيقة نقول لهم: إن أقوى إلزام نلزم به المرجئة الحنفية بحيث يصيرون مع أهل السنة أو مع المرجئة هو: ما تقولون في عمل القلب؟ فإن قالوا: نحن ندخل أعمال القلب في الإيمان، وعندما نقول: الأعمال غير داخلة في الإيمان، فنعني به عمل الجوارح فقط، إذاً نقول لهم: يلزمكم إدخال أعمال الجوارح، فأنتم في الحقيقة عدتم إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ، لكنكم لا تريدون الإقرار بها، وإلا في الواقع إذا قلت: إن الإخلاص واليقين والصبر والإيمان والخشية والإنابة والرغبة كل هذه من الإيمان، فلماذا تقول: إن الإيمان واحد؟ ولم تقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؟ هذه هي أعمال القلب، وإذا أدخلت أعمال القلب فلا بد أن تتبعها أعمال الجوارح، وهؤلاء يكون النزاع معهم لفظي؛ لأنه يقول: أعمال الجوارح واجبة، وأنا أعاقب من تركها، وأعمال القلب عندي داخلة من جملة الإيمان، إذاً لم لا تقل: أعمال الجوارح من الإيمان؟ فالخلاف لفظي، أما إن قال: أنا أقصد أعمال الباطن والظاهر فالإيمان عندي هو التصديق فقط، أما أعمال القلب وأعمال الجوارح فكلها غير داخلة في الإيمان، قلنا: إنكم بهذا القول أصبحتم من المرجئة الغلاة ، وإلا كيف يخرج أحد الرغبة والرهبة والخشوع والخشية من الإيمان وهي أعمال قلبية باطنة؟! لا يخرجها من هذا إلا من غلا، ولا يبقى بينك وبينهم فرق إلا أن الجهمية يقولون: المعرفة، وأنتم تقولون: التصديق، ونلزمهم بعد ذلك فنقول: التصديق المجرد كالمعرفة المجردة، والخلاف بينهما مجرد لفظ، أما إن قلتم: تصديق يستلزم الأعمال، وتدخل فيه الأعمال، فإذاً ترجعون إلى ما قلنا من عقيدة أهل السنة والجماعة .